فصل: تفسير الآيات (51- 59):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: إرشاد العقل السليم إلى مزايا الكتاب الكريم



.تفسير الآيات (20- 28):

{وَإِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَرَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَإِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21) فَدَعَا رَبَّهُ أَنَّ هَؤُلَاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبَادِي لَيْلًا إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَاتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْوًا إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24) كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (25) وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ (26) وَنَعْمَةٍ كَانُوا فِيهَا فَاكِهِينَ (27) كَذَلِكَ وَأَوْرَثْنَاهَا قَوْمًا آَخَرِينَ (28)}
{وَإِنّى عُذْتُ بِرَبّى وَرَبّكُمْ} أي التجأتُ إليهِ وتوكلتُ عليهِ {أَن تَرْجُمُونِ} من أنْ ترجمُونِي أيْ تُؤذونِي ضرباً أو شتماً أو أنْ تقتلوني، قيلَ لمَّا قالَ وأنْ لا تعلُوا على الله توعّدوه بالقتلِ. وقرئ بإدغامِ الذالِ في التَّاءِ. {وَإِن لَّمْ تُؤْمِنُواْ لِى فاعتزلون} أي وإنْ كابرتُم مقتضَى العقلِ ولم تُؤمنوا لي فخلُّوني كَفافاً عليَّ ولا ليَ، ولا تتعرضُوا لي بشرَ ولا أذَى فليس ذلك جزاءَ من يدعُوكم إلى ما فيهِ فلاحُكم. وحملُه على مَعْنى فاقطعُوا أسبابَ الوصلةِ عنِّي فلا موالاةَ بيني وبينَ منْ لا يُؤمنُ يأباهُ المقامُ.
{فَدَعَا رَبَّهُ} بعدما تمُّوا على تكذيبهِ عليه السَّلامُ {إِنَّ هَؤُلآء} أي بأنَّ هؤلاءِ {قَوْمٌ مُّجْرِمُونَ} وهو تعريضٌ بالدُّعاءِ عليهم بذكرِ ما استوجبُوه بهِ ولذلك سُمِّيَ دعاءً وقرئ بالكسرِ على إضمارِ القولِ. قبيلَ كانَ دعاؤُه اللَّهم عجِّلْ لهُم ما يستحقونَهُ بإجرامِهم، وقيلَ: هُو قولُه: {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لّلْقَوْمِ الظالمين} {فَأَسْرِ بِعِبَادِى لَيْلاً} بإضمارِ القولِ إِمَّا بعدَ الفاءِ أيْ فقالَ ربُّه: أسرِ بعبادِي وإما قبلَها كأنَّه قيلَ قال: إنْ كانَ الأمرُ كَما تقولُ فأسرِ بعبادِي أيْ ببنِي إسرائيلَ فقد دبَّر الله تعالى أنْ تتقدمُوا. وقرئ بوصلِ الهمزةِ منْ سَرَى. {إِنَّكُم مّتَّبِعُونَ} أي يتبعُكم فرعونُ وجنودُه بعد ما علمُوا بخروجِكم. {واترك البحر رَهْواً} مفتوحاً ذا فجوةٍ واسعةٍ، أو ساكناً على هيئته بعدَ ما جاوزْتَه، ولا تضربْهُ بعصاكَ لينطبقَ ولا تغيِّرْهُ عن حالِه ليدخلَه القبطُ. {إِنَّهُمْ جُندٌ مُّغْرَقُونَ} وقرئ: {أنَّهم} بالفتحِ أيْ لأَنَّهم {كَمْ تَرَكُواْ} أي كثيراً تركوا بمصرَ {مّن جنات وَعُيُونٍ وَزُرُوعٍ وَمَقَامٍ كَرِيمٍ} محافلَ مزيّنة ومنازلَ محسَّنةٍ {وَنَعْمَةٍ} أي تنعمٍ {كَانُواْ فِيهَا فاكهين} متنعمينَ وقرئ: {فكِهينَ} {كذلك} الكافُ في حيِّز النصب وذلك إشادة إلى مصدر فعل يدل عليه تركوا، أي مثل ذلك السلبِ سلبناهُم إيَّاها {وأورثناها قَوْماً ءَاخَرِينَ} وقيلَ: مثلَ ذلكَ الإخراجِ أخرجناهُم منها، وقيلَ: في حيزِ الرفعِ على الخبريةِ أيِ الأمرُ كذلكَ فحينئذٍ يكونُ أورثناهَا معطوفاً على تركُوا وعلى الأولَينِ على الفعلِ المقدرِ.

.تفسير الآيات (29- 35):

{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّمَاءُ وَالْأَرْضُ وَمَا كَانُوا مُنْظَرِينَ (29) وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ مِنَ الْعَذَابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كَانَ عَالِيًا مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَلَقَدِ اخْتَرْنَاهُمْ عَلَى عِلْمٍ عَلَى الْعَالَمِينَ (32) وَآَتَيْنَاهُمْ مِنَ الْآَيَاتِ مَا فِيهِ بَلَاءٌ مُبِينٌ (33) إِنَّ هَؤُلَاءِ لَيَقُولُونَ (34) إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولَى وَمَا نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35)}
{فَمَا بَكَتْ عَلَيْهِمُ السماء والأرض} مجازٌ عن عدمِ الاكتراثِ بهلاكِهم والاعتدادِ بوجودِهم، فيهِ تهكمٌ بهِم وبحالهم المنافيةِ لحالِ من يعظمُ فقدُه فيقالُ له بكتْ عليه السماءُ والأرضُ، ومنْهُ (ما رُويَ إنَّ المؤمنَ ليبكي عليه مُصَّلاهُ ومحلُّ عبادتِه ومصاعدُ عملِه ومهابطُ رزقِه وآثارُه في الأرضِ)، وقيلَ: تقديرُه أهلُ السماءِ والأرضِ. {وَمَا كَانُواْ} لمَّا جاءَ وقتُ هلاكِهم {مُّنظَرِينَ} ممهلينَ إلى وقتٍ أخرَ أو إلى الآخرةِ، بلْ عُجِّلَ لهم في الدُّنيا.
{وَلَقَدْ نَجَّيْنَا بَنِى إسراءيل} بأنْ فعلنا بفرعونَ وقومِه ما فعلنا {مِنَ العذاب المهين} من استعبادِ فرعونَ إيَّاهم وقتلِ أبنائِهم واستحياءِ نسائِهم على الخسفِ والضيمِ {مِن فِرْعَوْنَ} بدلٌ من العذابِ إمَّا على جعلِه نفسَ العذابِ لإفراطِه فيهِ، وإمَّا على حذفِ المضافِ أي عذابِ فرعونَ، أو حالٌ من المهينِ أي كائناً منْ فرعونَ. وقرئ: {مَنْ فرعونُ} على مَعْنى هل تعرفونَهُ من هُو في عُتوِّه وتفَرْعُنِهِ، وفي إبهامِ أمرهِ أولاً وتبيينِه بقوله تعالى: {إِنَّهُ كَانَ عَالِياً مِّنَ المسرفين} ثانياً من الإفصاحِ عن كُنِه أمرِه في الشرِّ والفسادِ ما لا مزيدَ عليهِ. وقولُه تعالَى منَ المُسرفينَ إمَّا خبرٌ ثانٍ لكانَ أي كان متكبراً مسرفاً، أو حالٌ من الضميرِ في عالياً أيُ كانَ رفيعَ الطبقةِ من بينِ المسرفينَ فائقاً لهُم بليغاً في الإسرافِ. {وَلَقَدِ اخترناهم} أي بنِي إسرائيلَ {على عِلْمٍ} أي عالمينَ بأنَّهم أحِقَّاءُ بالاختيارِ أو عالمينَ بأنَّهم يزيغونَ في بعضِ الأوقاتِ ويكثرُ منُهم الفرطاتُ {عَلَى العالمين} جميعاً لكثرةِ الأنبياءِ فيهم أو على عالَمِيْ زمانِهم {وءاتيناهم مِنَ الأيات} كفلْقِ البحرِ وتظليلِ الغمامِ وإنزالِ المنِّ والسَّلْوى وغيرِها من عظائمِ الآياتِ التي لم يُعهدْ مثلُها في غيرِهم. {مَا فِيهِ بلاؤا مُّبِينٌ} نعمةٌ جليةٌ أو اختبارٌ ظاهرٌ لننظرَ كيفَ يعملونَ.
{إِنَّ هَؤُلآء} يَعْني كفارَ قريشٍ لأنَّ الكلامَ فيهم وقصةُ فرعونَ وقومِه مَسوقةٌ للدلالةِ على تماثِلهم في الإصرارِ عَلَى الضِّلالةِ والتحذيرِ عن حلولِ مثلِ ما حَلَّ بهم. {لَيَقُولُونَ * إِنْ هي إِلاَّ مَوْتَتُنَا الأولى} أي ما العاقبةُ ونهايةُ الأمرِ إلا الموتةُ الأُولى المزيلُة للحياةِ الدُّنيويةِ، ولا قصدَ فيهِ إلى إثباتِ موتةٍ أُخْرى كمَا في قولِك حجَّ زيد الحجَّةَ الأُولى وماتَ. وقيلَ لمَّا قيلَ لهم: إنكُم تموتونَ موتةً تعقبُها حياةٌ كمَا تقدمتكم موتةٌ كذلكَ قالُوا ما هيَ إلا موتتُنا الأُولى أي ما الموتةُ التي تعقُبها حياةٌ إلا الموتةُ الأُولى وقيل: المَعْنى ليست الموتةُ إلا هذهِ الموتة دونَ الموتةِ التي تعقبُ حياةَ القبرِ كَما تزعمونَ {وَمَا نَحْنُ بِمُنشَرِينَ} بمبعوثينَ.

.تفسير الآيات (36- 40):

{فَأْتُوا بِآَبَائِنَا إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ (36) أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَمَا خَلَقْنَا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا لَاعِبِينَ (38) مَا خَلَقْنَاهُمَا إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ (39) إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقَاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40)}
{فَأْتُواْ بِئَابَائِنَا} خطابٌ لمن وعَدَهُم بالنُّشورِ من الرسولِ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ والمؤمنينَ {إِن كُنتُمْ صادقين} فيمَا تعِدونه مِنْ قيامِ السَّاعةِ وبعثِ الموتَى ليظهر أنَّه حقٌّ وقيلَ: كانُوا يطلبونَ إليهم أنْ يدعُوا الله تعالى فينشُرَ لهم قُصَيَّ بنَ كلابٍ ليشاورُوه وكانَ كبيرَهُم ومفزَعَهُم في المهمَّاتِ والملمَّاتِ.
{أَهُمْ خَيْرٌ} ردٌّ لقولِهم وتهديدٌ لَهُم أيْ أهُم خيرٌ في القوةِ والمنعةِ اللتينِ يُدفعُ بهما أسبابُ الهلاكِ {أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ} هو تبعٌ الحميريُّ الذي سارَ بالجيوشِ وحيَّر الحِيرةَ وبني سمرقندَ وقيل هدمَها وكان مؤمناً وقومُه كافرينَ ولذلكَ ذمَّهم الله تعالَى دونَهُ وكان يكتبُ في عنوانِ كتابِه بسمِ الله الذي ملكَ بحراً وبحراً أي بحاراً كثيرةً وعنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «لا تسبُّوا تُبعاً فإنَّه كانَ قد أسلمَ» وعنْهُ عليهِ الصَّلاةُ والسَّلامُ: «ما أدْرِي أكانَ تبعٌ نبياً أو غيرَ نبيَ» وعن ابنِ عبَّاسٍ رضيَ الله عنهُمَا: أنَّه كانَ نبياً. وقيلَ لملوكِ اليمنِ التبابعةِ لأنَّهم يُتبعونَ، كما يقالُ لهم الأقيالُ لأنَّهم يتقيَّلونَ. {والذين مِن قَبْلِهِمْ} عطفٌ على قومُ تبعٍ والمرادُ بهم عادٌ وثمودُ وأضرابُهم من كلِّ جبَّارٍ عَنيدٍ أولي بأسٍ شديدٍ. والاستفهامُ لتقريرِ أنَّ أولئكَ أقوى مِنْ هؤلاءِ. وقوله تعالى: {أهلكناهم} استئنافٌ لبيانِ عاقبةِ أمرِهم. وقولُه تعالَى: {إِنَّهُمْ كَانُواْ مُجْرِمِينَ} تعليلٌ لإهلاكِهم ليَعلمَ أنَّ أولئكَ حيثُ أهُلكُوا بسببِ إجرامِهم معَ ما كانُوا في غاية القوةِ والشدةِ فلأنْ يَهلكَ هؤلاءِ وهم شركاءُ لهم في الإجرامِ أضعفُ منهم في الشدةِ والقوةِ أَوْلَى.
{وَمَا خَلَقْنَا السموات والأرض وَمَا بَيْنَهُمَا} أي ما بينَ الجنسينِ. وقرئ: {وما بينهنَّ} {لاَعِبِينَ} لاهينَ من غيرِ أنْ يكونَ في خلقِهما غرضٌ صحيحٌ وغايةٌ حميدةٌ. {مَا خلقناهما} وما بينَهما {إِلاَّ بالحق} استثناءٌ مفرغٌ من أعمِّ الأحوالِ أو أعمِّ الأسبابِ أي ما خلقناهُمَا ملتبساً بشيءٍ من الأشياءِ إلا ملتبساً بالحقِّ أو ما خلقناهُمَا بسببٍ من الأسبابِ إلا بسببِ الحقِّ الذي هُو الإيمانُ والطَّاعةُ والبعثُ والجزاءُ. {ولكن أَكْثَرَهُمْ لاَ يَعْلَمُونَ} أنَّ الأمرَ كذلكَ فينكرون البعثَ والجزاءَ {إِنَّ يَوْمَ الفصل} أي فصلِ الحقِّ عن الباطلِ وتمييزِ المحقِّ من المبطلِ أو فصلِ الرجلِ عن أقاربِه وأحبَّائِه {ميقاتهم} وقتَ موعدِهم {أَجْمَعِينَ} وقرئ: {ميقاتَهُم} بالنصبِ على أنَّه اسمُ إنَّ ويوم الفصلِ خبرُها أي أنَّ ميعادَ حسابِهم وجزائِهم في يومِ الفصلِ.

.تفسير الآيات (41- 50):

{يَوْمَ لَا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئًا وَلَا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42) إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعَامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاءِ الْجَحِيمِ (47) ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هَذَا مَا كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)}
{يَوْمَ لاَ يُغْنِى} بدلٌ من يومَ الفصلِ أو صفةٌ لميقاتُهم أو ظرفٌ لما دلَّ عليه الفصل لا لنفسِه {مَوْلَى} مِنْ قرابةٍ أو غيرِها {عَن مَّوْلًى} أيُّ مَوْلَى كانَ {شَيْئاً} أيْ شيئاً من الإغناءِ {وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ} الضميرُ لمولَى الأول باعتبارِ المَعْنى لأنَّه عامٌّ.
{إِلاَّ مَن رَّحِمَ الله} بالعفوِ عنْهُ وقبولِ الشفاعةِ في حقِّه، ومحلُّه الرفعُ على البدلِ من الواوِ أو النصبُ على الاستثناءِ {إِنَّهُ هُوَ العزيز} الذي لا يُنصرُ من أرادَ تعذيبَهُ {الرحيم} لمنْ أرادَ أنْ يرحَمهُ {إِنَّ شَجَرَةَ الزقوم} وقرئ بكسرِ الشينِ وقد مرَّ مَعْنى الزقومِ في سورةِ الصَّافاتِ {طَعَامُ الأثيم} أي الكثيرِ الآثامِ والمرادُ به الكافرُ لدلالةِ ما قبلَهُ وما بعدَه عليهِ {كالمهل} وهو ما يُمهلُ في النَّارِ حتَّى يذوبَ وقيلَ: هو دُرْدِيُّ الزَّيتِ {يَغْلِى فِي البطون} وقرئ بالتاءِ على إسنادِ الفعلِ إلى الشَّجرةِ. {كَغَلْىِ الحميم} غلياناً كغليهِ {خُذُوهُ} عَلى إرادةِ القولِ والخطابُ للزبانيةِ {فاعتلوه} أي جُرُّوه، والعَتلُ الأخذُ بمجامعِ الشيءِ وجرُّه بقهرٍ وعنفٍ وقرئ بضمِّ التاءِ وهي لغةٌ فيهِ. {إلى سَوَاء الجحيم} أي وسطِه {ثُمَّ صُبُّواْ فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الحميم} كانَ الأصلُ يصبُّ من فوقِ رؤوسِهم الحميمُ فقيلَ يصبُّ من فوقِ رؤوسِهم عذابٌ هو الحميمُ للمبالغةِ ثم أضيفَ العذابُ إلى الحميمِ للتخفيفِ وزيدَ من للدلالةِ على أنَّ المصبوبَ بعضُ هذا النوعِ {ذُقْ إِنَّكَ أَنتَ العزيز الكريم} أي وقولُوا له ذلكَ استهزاءً بهِ وتقريعاً له على ما كانَ يزعمُه، رُويَ أنَّ أبا جهلٍ قالَ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم: ما بينَ جبليَها أعزُّ ولا أكرمُ منِّي فوالله ما تستطيعُ أنتَ ولا ربُّك أنْ تفعَلا بي شيئاً. وقرئ بالفتحِ أي لأنَّك أو عذابُ أنَّك {إِنَّ هَذَا} أي العذابَ {مَا كُنتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ} تشكونَ وتُمارونَ فيهِ والجمعُ باعتبارِ المعنى لأنَّ المرادَ جنسُ الأثيمِ.

.تفسير الآيات (51- 59):

{إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقَامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُنْدُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ مُتَقَابِلِينَ (53) كَذَلِكَ وَزَوَّجْنَاهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيهَا بِكُلِّ فَاكِهَةٍ آَمِنِينَ (55) لَا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولَى وَوَقَاهُمْ عَذَابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)}
{إِنَّ المتقين} أيْ عن الكفرِ والمَعَاصِي {فِى مَقَامٍ} في موضعَ قيامٍ، والمرادُ المكانُ على الإطلاقِ فإنَّه من الخاصِّ الذي شاعَ استعمالُه في مَعْنى العمومِ. وقرئ بضمِّ الميمِ وهو مَوضعُ إقامة {أَمِينٌ} يأمن صاحبُه الآفاتِ والانتقالَ عنْهُ وهو منَ الأمنِ الذي هُو ضدُّ الخيانةِ، وصفَ به المكانُ بطريقِ الاستعارةِ، كأنَّ المكانَ المخيفَ يخونُ صاحبَهُ لما يَلْقى فيهِ من المكارِه {فِى جنات وَعُيُونٍ} بدلٌ من مقامٍ جيءَ بهِ دِلالةً على نزاهتِه واشتمالِه على طيباتِ المآكلِ والمشاربِ {يَلْبَسُونَ مِن سُندُسٍ وَإِسْتَبْرَقٍ} إما خبرٌ ثانٍ أو حالٌ من الضميرِ في الجارِّ، أو استئنافٌ. والسندسُ ما رقَّ من الحريرِ، والإستبرقُ ما غلُظَ منْهُ معرَّبٌ. {متقابلين} في المجالسِ ليستأنسَ بعضُهم ببعضٍ {كذلك} أي الأمرُ كذلكَ أو كذلكَ أثبناهُم {وزوجناهم بِحُورٍ عِينٍ} على الوصفِ وقرئ بالإضافةِ أي قرنّاهم بهنَّ والحورُ جمعُ الحوراءِ وهي البيضاءُ، والعينُ جمعُ العيناءِ وهي العظيمةُ العينينِ واختُلفَ في أنهنَّ نساءُ الدُّنيا أو غيرُها {يَدْعُونَ فِيهَا بِكلّ فاكهة} أي يطلبونَ ويأمرونَ بإحضارِ ما يشتهونَهُ من الفواكهِ لا يتخصصُ شيءٌ منها بمكانٍ ولا زمانٍ {ءامِنِينَ} من كلِّ ما يسوؤهم {لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} بل يستمرُّونَ على الحياةِ أبداً والاستثناءُ منقطعٌ أو متصلٌ على أنَّ المرادَ بيانُ استحالةِ ذوقِ الموتِ فيها على الإطلاقِ كأنَّه قيلَ: لا يذوقونَ فيها الموتَ إلا إذا أمكن ذوقُ الموتةِ الأُولى حينئذٍ {ووقاهم عَذَابَ الجحيم} وقرئ مشدداً للمبالغةِ في الوقايةِ. {فَضْلاً مّن رَّبّكَ} أي أُعطوا ذلكَ كلُّه عطاءً وتفضلاً منه تعالَى. وقرئ بالرفعِ أي ذلكَ فضلٌ {ذلك هُوَ الفوز العظيم} الذي لا فوزَ ورِاءَهُ إذ هُو خلاصٌ عن جميعِ المكارِه ونيلٌ لكلِّ المطلبِ. وقوله تعالى: {فَإِنَّمَا يسرناه بلسانك لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ} فذلكةٌ للسورةِ الكريمةِ إنَّما أنزلنَا الكتابَ المبينَ بلغُتكَ كيَ يفهمُه قومُك ويتذكروا ويعملُوا بموجبِه وإذْ لم يفعلُوا ذلكَ {فارتقب} فانتظرْ ما يحِلُّ بهم {إِنَّهُمْ مُّرْتَقِبُونَ} ما يحلُّ بكَ. رُويَ عنِ النبيِّ صلى الله عليه وسلم: «مَنْ قرأَ حم الدخان ليلةَ الجمعةِ أصبحَ مغفوراً لهُ».

.سورة الجاثية:

.تفسير الآيات (1- 4):

{حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَآَيَاتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَفِي خَلْقِكُمْ وَمَا يَبُثُّ مِنْ دَابَّةٍ آَيَاتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)}
{حم} الكلامُ فيه كما مرَّ في فاتحةِ سورةِ المؤمنِ فإنْ جُعلَ اسماً للسورةِ، فمحلُّه الرفعُ على أنَّه خبرٌ لمبتدأٍ محذوفٍ أي هذا مُسمَّى بحم. والإشارةُ إلى السورةِ قبل جريانِ ذكرِها قد وقفتَ على سرِّه مراراً، وإنْ جُعلَ مسروداً على نمطِ التعديدِ فلا حظَّ له من الإعرابِ. وقولُه تعالى: {تَنزِيلُ الكتاب} على الأولِ خبرٌ بعدَ خبرٍ، على أنَّه مصدرٌ أطلقَ على المفعولِ مبالغةً، وعلى الثانِي خبرٌ لمبتدأٍ مضمرٍ يلوحُ به ما قبلَهُ أي المؤلفُ من جنسِ ما ذُكِرَ تنزيلُ الكتابِ وقيلَ: هو خبرٌ لحم أي المُسمَّى به تنزيلُ إلخ وقد مرَّ مراراً أنَّ الذي يُجعلُ عُنواناً للموضوعِ حقَّه أنْ يكونَ قبلَ ذلكَ معلومَ الانتسابِ إليه، وإذ لا عهدَ بالتسميةِ بعدُ فحقُّها الإخبارُ بَها، وأما جعلُه خبراً له بتقديرِ المضافِ وإبقاءِ التنزيلِ على أصلِه أي تنزيلُ حم تنزيلُ الكتابِ فمعَ عرائهِ عن إفادةِ فائدةٍ يُعتدُّ بها تمحلٌ على تمحلٍ. وقولُه تعالى: {مِنَ الله العزيز الحكيم} كما مرَّ في صدرِ سورةِ الزمرُ على التفصيلِ، وقيلَ: حم مقسمٌ به، وتنزيلُ الكتابِ صفتُه، وجوابُ القسمِ قولُه تعالى: {إِنَّ فِي السموات والأرض لأَيَاتٍ لِّلْمُؤْمِنِينَ} وهو على الوجوهِ المتقدمةِ كلامٌ مسأنفٌ مسوقٌ للتنبيهِ على الآياتِ التكوينيةِ الآفاقيةِ والأنفسيةِ، ومحلُّ الآياتِ إمَّا نفسُ السمواتِ والأرضِ فإنَّهما منطويتانِ من فنونِ الآياتِ على ما يقصرُ عنه البيانُ وإما خلقُهما كما في قولِه تعالى: {إِنَّ فِي خَلْقِ السموات والأرض} وهو الأوفقُ بقوله تعالى: {وَفِى خَلْقِكُمْ} أي من نطفةٍ ثم من علقةٍ متقلبةٍ في أطوارٍ مختلفةٍ إلى تمامِ الخلقِ {وَمَا يَبُثُّ مِن دَابَّةٍ} عطفٌ على المضافِ دونَ المضافِ إليه أي وفيمَا ينشرُه ويفرّقُه من دابةٍ.
{ءايات} بالرفعِ على أنَّه مبتدأٌ خبرُهُ الظرفُ المقدمُ. والجملةُ معطوفةُ على ما قبلَها من الجملةِ المصدرةِ بإنَّ وقيلَ: آياتٌ عطفٌ على ما قبلَها من آياتٍ باعتبارِ المحلِّ عندَ من يُجوِّزُه وقُرِيَء آيةٌ بالتوحيدِ، وقرئ: {آيات} بالنصب عطفاً على ما قبلها من اسم إنَّ والخبر هو الخبر كأنه قيل: وإن في خلقكم ما يبث من دابة آياتٍ {لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ} أي من شأنِهم أنْ يُوقنوا بالأشياءِ على ما هيَ عليهِ.